دعوى تاريخيَّة الأديان أحد الدَّعوات المؤسِّسة للفكرِ الغربيِّ في عصر النَّهضة والتَّنوير وما بعدهما: فلقد بنى الغرب أفكاره الرئيسة المؤسِّسة على اتِّهام الأديان بالخرافة، ووصفها بالرَّجعيَّة والجمود والتَّخلف؛ لم يفرق في ذلك بين الأفهام الدِّينيَّة الصَّحيحة، الدَّاعية إلى الفكر واحترام العقل، وبين الأفهام المزيَّفة، الَّتي انتقت أفكارها من مفاهيم التَّعصب الدِّينيِّ واحتكار المعرفة، وقامت مرتكزاتها –وخصوصًا العلميَّة منها- على النَّظريَّات الموروثة، العارية من البراهين العلميَّة والموازين العقليَّة الدَّقيقة.
وقد قامت الدَّعوى على مجموعة من المرتكزات أهمُّها: أنَّ العلم في صراع دائم مع الدِّين، وأنَّ الدِّين لا يُقِرُّ بمعارف العلم، ولا يأخذ بمنجزاته. ولا شكَّ أنَّ هذا زعمٌ بيِّنٌ بطلانه، مدحورةٌ مبرِّراته، ومجافي للحقيقة؛ فالدِّين والعلم متَّحدان في الموضوع والأهداف، رغم اختلاف الوسائل والآليَّات. هذا ما أثبته أصحاب الفكر السَّليم، وأرباب الرُّؤية العلميَّة الثَّاقبة؛ البعيدة عن التَّعصب المذموم والكبرِ العلميِّ الزَّائف؛ كما أكَّدت عليه الأديان الصَّحيحة، الدَّاعية إلى أهمية العلم، وضرورة احترام المنجزات الفكريَّة والجهود المعرفيَّة.
ولقد كان لهذه الدَّعوى آثارٌ علميَّةٌ ودينيَّةٌ؛ وضعت العقل الحديث في أزمات متتالية؛ ممَّا كان دافعًا للعلماء والمفكرين إلى تجديد الدَّعوى للعودة إلى الدِّين، والارتكان إلى وجود الخالق؛ للبحث عن علاج لهذه الأزمات العلميَّة المتكرِّرة. وقد كان ذلك سببًا في تبنِّي الفلسفة الإيمانيَّة، ورفض الفلسفة المادِّيَّة؛ الَّتي كانت دعوى تاريخيَّة الأديان من أهمِّ آثارها.
ويعتبر هذا البحث خطوة على هذا الطَّريق: فقد بيَّن الباحث نقده لهذه الفلسفة المادِّيَّة، وأوضح بعضًا من معالم الفلسفة الإيمانيَّة؛ حتَّى يستبين الطَّريق، وتقوم معالم النَّهضة الحديثة على أسس سليمة ودوافع قويَّة متينة.